السؤال.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إذا استشار الإنسان شيخا في أمر من أمور الدنيا، وأجابه الشيخ بفعل أمر مّا وفعله الإنسان بغية إرضاء الله وأن يجازيه الله في الآخرة ويعطيه الثواب.
ولكن كان حكم الشيخ خاطئاً، فهل يجازى الإنسان على هذا الفعل الذي فعله بغية إرضاء الله؟!
وشكرا.
الإجابــة.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الأخت الفاضلة/ مسلمة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فهذا سؤالٌ حسن لطيف وقد يعرض للإنسان فيسأل عن مسألة فيُفتى بقولٍ فيتبعه، ثم يذهب إلى غيره فيشير عليه بأن هذا القول خطأ وربما بين له الدليل في ذلك فيحصل له ندمٌ على العمل بالقول الذي أشار به بعض الناس ويتساءل:
هل ما تقدم من عمل الذي احتسبت الأجر فيه وذلك الفعل الذي قمت به لأجل الله عز وجل وطلباً لمرضاته هل يتقبله الله مني ويأجرني عليه مع كونه قد كان خطأً كما تبين لي؟
والجواب: يتبين لك بمقدمةٍ لطيفة وهي أن المسلم إذا أراد أن يُقدم على عمل فإنه لا بد أن يُقدم العلم قبل القول والعمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي لا تقولوا قولاً ولا تعملوا عملاً حتى تعلموا حكم الله ورسوله.
وهذا هو موجب التقوى؛ لأن عبادة الله جل وعلا في أي شأن من الشؤون دون معرفة حكمه العظيم هو من العدوان الذي لا يحبه الله جل وعلا، بل الصواب أن يكون عابداً ربه على بصيرة فيقدم العلم قبل القول والعمل، فمتى ما ذهب المسلم واستفتى بعض من يحل له استفتاؤه من أهل العلم بالحلال والحرام، ثم أفتاه فإنه قد فعل الواجب الذي أمره الله تعالى به كما قال جل وعلا: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فقسم الله جل وعلا الناس قسمين: عالمٌ ومتعلم، وأمر المتعلم بأن يسأل العالم إذا خفي عليه الأمر، وهذا يتم بأي صورةٍ يصح أن يأخذ الإنسان العلم بها، إما بأن ينال ذلك مباشرةً من الكتاب إن كان قادراً على الفهم والاستيعاب، وإما بأن يسأل أهل العلم مشافهةً فيُجاب على سؤاله، ولا يلزمه شرعاً أن يسأله عن الدليل في ذلك إن كان المسؤول من أهل العلم والتقوى.
إذا عُلم هذا فإن المسائل التي يفتي بها الناس تارةً تكون من المسائل المختلف فيها فهذا الأمر فيه واضح، فمثلاً لو أنك سألت في حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل فقد يفتيك بعضهم بأنه يجب عليك الوضوء لأنه من نواقضه، وقد يفتيك بعضهم بأنه لا يجب عليك، فلو أنك عملت بأحد القولين زمناً ثم تبين لك بالدليل أن الحق على خلافه فأنت مأجورةٌ في كلا الحالين؛ لأنك كنت متبعةً أمر الله جل وعلا في كلا الحالتين.
ونظير ذلك لو أن رجلاً أراد أن يُقدم على معاملةٍ من المعاملات فقيل له إن هذه المعاملة من الحرام فتركها طاعةً لله جل وعلا، ثم تبين بعد ذلك بالدليل أن هذه المعاملة لا حرج فيها وأنها جائزة، واستبان له الحق في ذلك فإنه يؤجر على تركه لذلك الأمر.
وهذا في أي مسألة من المسائل المتنازع فيها، بشرط أن لا يكون الإنسان متبعاً لرغبته وهواه في التنقل من قولٍ إلى آخر، بل يكون ذلك بموجبٍ دعا إليه كوضوح الدليل وقوته، وهذا القول ينسحب على جميع المسائل المتنازع فيه بين الأئمة الفقهاء عليهم جميعاً رحمة الله تعالى.
وهذا له أصلٌ في كتاب الله العزيز كما وقع للصحابة رضي الله عنهم عندما قطعوا أشجار اليهود فمنهم من أقدم على ذلك فقطّع وحرق، ومنهم من امتنع عن ذلك، فقال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ –وهي النخلة- أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} فأقر كلا الفريقين على ما فعل، وكذلك قال جل وعلا: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}.
فوقعت هذه الحادثة في زمن داوود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، فحكم فيها سليمان وأصاب فيها ثم أثنى عليه جل وعلا بذلك وخصه بالفهم فيها، ثم أثنى عليهما معاً بالحكم والعلم حتى مع مخالفة داوود عليه الصلاة والسلام له.
وكذلك ما وقع في غزوة بني قريظة عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يصليّن أحدهم العصر إلا في بني قريظة فكان منهم من صلاها في وقتها فهماً منه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالمبادرة لا غير.
وكان منهم من التزم بظاهر الأمر ولم يصلها حتى وصل بني قريظة، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخطّئ أحداً منهم، ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) والحديث مخرجٌ في الصحيحين.
فبهذا المعنى يتقرر أنك تكونين مأجورةً بإذن الله عز وجل على هذا الفعل الذي قد قمت به، لا سيما إن كانت المسألة من المسائل التي تنازع فيها أهل العلم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، فإن قلت: فإن تبين أن الذي أفتاني إنما أخطأ خطأ محضاً ولم يصب قولاً من الأقوال المعتبرة وإنما خالف الإجماع وأفتى بالخطأ في هذا ؟
فالجواب: إنك حتى وإن كان الأمر كذلك فمعذورةٌ مأجورةٌ بإذن الله ؛ لأنك سألت من تظنين أنه أهلٌ للسؤال فأخذت بقوله ظناً منك أن هذا هو مراد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه فأنت مأجورةٌ بهذا الاعتبار ولك ما نويت، وهذا أصله العظيم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) متفق عليه.
وكذلك كما خرجه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لك ما نويت) في قصة معروفة، ففي جميع الأحوال أنت مأجورةٌ بإذن الله عز وجل على نيتك الصالحة التي قصدت بها احتساب الأجر واتباع الشرع.
ولكن ومع هذا فلا بد من العناية في هذه الحالة في اختيار من يُعرف بالعلم والتقوى فلا ينبغي أن يُسأل أي إنسان ولكن يُسأل من عُرف عنه بأنه صاحب علمٍ وصاحب معرفةٍ وأنه أهل لذلك.
وهذا أمرٌ قد يُعلم تارةً بشيوع خبره وتارةً بكونه في محل مختص بالإفتاء ونحو ذلك، وغير ذلك من الأسباب المعروفة التي يمكن التعرف بها على أهل الاختصاص في هذا الشأن.
نسأل الله عز وجل أن يجزيك خير الجزاء، وأن يثيبك على هذه النية، وأن يبارك فيك، وأن يزيدك فضلاً إلى فضل، وأن يجعلك من متبعين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق والسداد.
الكاتب: أ/ الهنداوي
المصدر: موقع إسلام ويب